لحظات الانتظار املأها بالاستغفار

قوائم الموقع

عودة الحجيج | الجزء الثاني

14 مايو، 2016 8122 عدد الزوار

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعل حج بيته الحرام كفارة للخطايا والآثام نحمده على ما منح من سوابغ الإنعام الحمد لله مثيب الطائعين على صالح العمل أجزل الثواب ومجيب الداعين فهو أكرم من أجاب يغفر الزلات ويقيل العثرات ويجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من أناب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله أرسله بأسمح دين وأفصح كتاب اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه خير آل وأكرم أصحاب أما بعد:

عباد الله: لقد انتهى موسم الحج هذا الموسم المبارك الكريم انتهى بما فيه، وختم لكل واحد منا بما قدّم فيه من خير وشر، من طاعة أو معصية، من قبول أو رد، فكيف بمن سيرحل، ويترك وراءه الحرم، والبيت، والمقام، والركن وزمزم، والطواف، والمشاعر. كيف بمَن يودِّعها بعدَ أن عَمَرَ بها قلبَه وأنس وهو يناجي ربه؟! فيا ضيف الرحمن ويا حبيب الدَّيَّان، يامن لبست ثوب الإيمان وتلوتَ القرآن: نداء لك بعد أن تحققت لك الأمنية، وتمت لك العطيَّة، وخرجت بإذن الله من بعد صفحاتك السوداء بصفحة بيضاء نقية، ناصعة بهية، وأعمال مرضيِّة، وروح مرتفعة المعنوية. فيا لها من منحة قدسِيَّة لحجاج بيته وعطيَّة ربانيَّة لضيوفِه وسياحةً روحانيةً لوفده.

نداء لك أيها الحاج: بعد أن ذقتَ حلاوةَ الطاعةِ ولذَّةِ الإيمانِ والأنسِ بالواحدِ الدَّيَّانِ. نداء بعد أن عوَّدتَ النفسَ على جميلِ الصفاتِ والمحافظةِ على الصلواتِ والبعدِ عن السيئاتِ في أيامٍ هي خير أيام لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال. سارعت فيها إلى الخيرات وانطرحت بين يدِي بدِيع الأرضِ والسماواتِ نداء لفطرتك وإيمانك وإسلامك الذي جاء بك من أقصى الدنيا تاركًا وراءكَ الأهلَ والأبناءَ والدنيَا والأعباءَ. أتعبت نفسكَ، وأسهرتَ ليلكَ، وأظمأتَ نهاركَ، وأنفقتَ مالكَ، وتركتَ عملكَ، ومصالحِكَ في مرضاةِ ربِّك. يقول الله تعالى: “وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشرِي نَفسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ”، فيا مَن فعلتَ ذلك كلَّه إخلاصًا وطاعةً لله وطمعًا في جنةٍ الله. فابشر فوالله لقد أقبلت على رب رحيم وإله كريم ومعبود عظيم أقبلت على العزيز الغفور وطرقت باب الملك الشكور وانطرحت بين يدي أرحم الراحمين الذي وسعت رحمته كل شيء سبحانه ما أرحمه وما أعظمه أتيتَ ووقفتَ في موقفٍ عظيمٍ عتق الله فيه من الرقاب كثرةً لا تحصى؛ لتتخلص من الذنوبِ والآثام ولترضي ربك الرحيم الرحمن تطمع منه في رحمه من رحماته فلله يا عبد الله مائة رحمةً أنزلَ منها رحمةً واحده بين الجن، والإنس، والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمُون وبهَا تَعطِفُ الوحش على ولدَها وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة فأبشر يا ضيف الرحمنَ الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ولكن لا تنسى مقتضيات الحصول على هذه الرحمة قال ربك: “وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شِيءٍ فَسَأكتُبها للذِّين يتَّقُون ويُؤتُون الزَّكاة والذين هم بآياتنا يُؤمنُون” وقال في موضع آخر: “إنَّ رحمةِ اللهِ قَريب من المحسنين”. فمن كانَ فِي ضيافة هذا الرب الرحيم الكريم فيا بشراه قال سبحانه: “قُل يَا عِبَادِي الذِّينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفسَهُم لا تقنطُوا مِن رَحمَةِ اللهِ إنَّ الله يغفرُ الذنوبَ جميعًا إنه هُو الغفورُ الرَّحيم” ويقول تعالى في الحديث القدسي: (يا عبدي وعزتي وجلالي لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرت لك ولا أبالي) فينبغي عباد الله جميعا بعد انقضاء هذا الموسم المبارك الإكثار من الاستغفار لما حصل لطاعاتنا من التقصير ولقرباننا من التفريط وإن الاستغفار بعد الطاعات هو دأب الصالحين وهو منهج أرباب البصائر وأصحاب العزائم وهو طريق العارفين أهل الفقه في دين رب العالمين الذين يكونون أشدَّ استغفارًا عُقَيبَ الطاعاتِ، وأعظمَ استغفارًا بعيدَ العقباتِ؛ وذلكَ لشهودَهُم تقصيرَهُم فيها وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وأنه لولا أن الله عزَّ وجل أمرَ أحدَهم بهذه العبادة لمَّا أقدم عليها ولا رضِيَها لسيده وخالقه، وأنه لولا أن الله أعانَهُ عليها لما قامَ بها ولا قدِرَ على فعلها. إنَّ هذا الفهم يا عباد الله هو الذي أمرَ الله عزَّ وجل بهِ وحثَّ عبادَه عليهِ ونبههم إليه فأمرهم أن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات “فَإذَا أفضتُم مِن عَرفاتٍ فَاذكروا اللهَ عِندَ المَشعَرِ الحَرَامِ وَاذكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُم وَإن كُنتُم مِن قَبلِه لَمِنَ الضَّالِين ثمَّ أفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاس واستغفروا الله إنَّ الله غَفُورٌ رَحِيم” وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاستغفارِ عقبَ العباداتِ وهي الصلاة فَعلمنا أن نقول بعد السلام مباشرة استغفر الله ثلاثًا وبِالاستغفارِ أيضًا أمرَ الله عزَّ وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يختم الرسالة والدعوة الإسلامية والقيام بما عليهِ من تبعاتها وداء تكليفها ومشاقِّها فأمره في آخر سورة نزلت عليه أن يستغفر الله عزَّ وجل فقال له: “إذا جَاءَ نصرُ اللهِ والفتح- ورأيتَ الناسَ يَدخلونَ فِي دينِ اللهِ أفواجًا- فَسبِّح بِحمدِ ربِّكَ وَاستغفرهُ إنَّهُ كَانَ توابًا” ومن هنا فَهِمَ إمامَ المفسرينَ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن معنى هذه السورة اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم وان الله أخبره به فأمره أن  يستغفره عقب ما كان عليه فكأنه إعلام بأنك يا محمد قد أديت ما عليك ولم يبق عليك شيء فاجعل خاتمته الاستغفار اللهم اختم بالاستغفار جميع أعمالنا اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله غافر الذنبِ، وقابل التوبِ، شديدِ العقابِ، ذي الطولِ لا غله إلا هو إليه المصير. وأشهد أنَّ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له الجواد الكريم، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم. أما بعد:

عباد الله: لا بد من ختم موسم الطاعات بالاستغفار والتوبة فالاستغفار ختام الطاعات وختام الآجال فهو وظيفة العمر ونهاية الحياة لكنَّه استغفار الندمِ واستغفار الرجوعِ.

يقول أحد السلف: المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه.

عباد الله:  فالحذر ثم الحذر من أن تهدموا ما بنيتم وتشتتوا ما جَمَعتُم وتبدِّدوا ما حصلتم فتنتكسوا بعد الاهتداءِ، وترتكسوا بعد النقاءِ، وتخلعوا ثوبَ الطاعةِ والصفاءِ، وتسوِّدُوا صفحاتكم البيضاءَ بأعمالٍ سوداء، فلابدَّ لنَا مع الاستغفارِ مِنْ تَركِ الإصرارِ على الذنوبِ والمعاصي فإنَّ من طمِعَ فِي العتق من النار بالاستغفار حرمَ نفسَهُ الرَّحمةَ بِالإصرارِ على الآثامِ والأوزارِ. فيامَن فعلتَ ذلكَ ما نصحتَ نفسكَ، وأوبقتَ نفسكَ بالمعاصِي، فإذا حرِّمتَ القبولَ قلتَ: أنى هذا؟! “قُل هُو مِن عِندِ أَنفُسِكُم”.

اشترى بعض السلف نفسه من الله مرارًا، يتصدق كل مرَّةٍ بوزنِ نفسِه فضَّةً، واشترى آخر نفسه من الله بِأربَعِين ألفَ دِرهمًا تصدَّقَ بِها.

عباد الله: من عرف ما يطلب، هانَ عليهِ ما يَبذِل، لقد رضيَ اللهُ عزَّ وجل منَّا بالندمِ وقَنَعَ منَّا فِي ثَمنِ الجنَّةِ بالتوبةِ والحزنِ. وفي هذا الموسم العظيمِ رخصَ السعر فمن ملك سمعَه وبصرَه ولسانَهُ غفرَ الله لَهُ. فلنمُدَّ إِلى اللهِ يَدَ الاعتذارِ ولنقُم على بابهِ بالذلِّ والانكسارِ ولِنقُل كما قال تعالى في كتابه: “رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين”.

قال يحيى بن معاذ: [العبد يوحِّش فيما بينه وبين ربهِ بالمخالفات ولا يفارق بابه ابدا لعلمه بأن عز العبيد في ظل سيدهم].

عباد الله: لقد وقفتم بعرفة فهنيئا لمن رزق القبول وعزاء لمَن ناله الحرمان. إنَّ من فاتَهُ القيامَ بعرفةٍ فليقم لله بحقه الذي عرفَه، ومَن عجز عن المبيتِ بمزدلفة فليبيتَ عَزمَهُ على طاعةِ الله تعالى، ومَن لم يمكنه القيامَ بأرجاءِ مِنى فليذبح هواه هنا وقد بلغ بذلك غاية المُنى، ومَن لم يصل إلى البيت؛ لأنهُ منهُ بَعيد فليقصدَ ربَّ البيت فإنَّه أقربُ إليهِ من حبلِ الوريد.

عباد الله: فلنُكثرَ من الاستغفارِ والندمَ والتوبةِ، ولنبتعد عن الذنوب والمعاصي فإنَّها من أعظم أسباب البعد.

عباد الله: إن الله وملائكتَه يصلُّون على النبي يَا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمدٍ وعلى أهلِ بيتهِ الطيبينَ الطاهرين وعلى صحابته ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين وعنَّا معهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلامَ والمسلمينَ وأذلَّ الشركَ والمشركين ودمِّر أعداءَ الدِّين، وانصر عبادَك الموحدِّين. اللهم آمنَّا في أوطاننا وأصلح أمَّتنا وولاة أمورنا. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياءِ منهم والأمواتِ. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم جددِّ الإيمانَ في قلوبِنَا وتوفَّنا مسلمين. اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقنا عذابَ النارِ. اللهم حاسبنا حسابًا يسيرًا اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا ديننا الذي فيه معاشنا وأصلِح لنا آخرتَنا التي عليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا من كلِّ خيرٍ واجعل الموتَ لنا راحةً مِن كلِّ شر.